الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
وهي سبعة: البغي، والردة، والزنا، والقذف، والسرقة، والحرابة، والشرب. وأصلها من الجني، كأن من فعل أحدها فقد استثمر أخلاقه كما تجنى الثمرة من الشجرة. وأصلها لغة: الطلب، قال الله تعالى: (ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا) أي: ما نطلب. وفي الجواهر: خصصه الشرع ببعض موارده، وهو الذي يخرج على الإمام يبغي خلعه، أو يمتنع من الدخول في طاعته أو يمنع حقا وجب عليه بتأويل. ووافقنا الأئمة على هذا التفسير، غير أنهم نصوا على اشتراط الكثرة المحوجة للجيش، وأن العشرة ونحوها قطاع الطريق؛ لأن ابن ملجم لما جرح عليا - رضي الله عنه - قال للحسن: إن برئت رأيت رأي، وإن مت فلا تمثلوا به، فلم يثبت لفعله حكم البغاة. واشترطوا التأويل مع الكثرة والخروج على الإمام، فجعلوا الشروط ثلاثة، واختلفوا في الخوارج المكفرين لكثير من الصحابة المستحلين دماء المسلمين وأموالهم، فقال: (ش) و(ح). (ومتأخرو الجنايات هم: بغاة، ولمالك في تكفيرهم قولان، فعلى تكفيرهم يكونون بغاة). وهي اثنا عشر: الأول: وجوب قتالهم، لقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) وفيها أربع فوائد: الأولى: أنه تعالى لم يخرجهم بالبغي عن الإيمان؛ لأنه تعالى سماهم مؤمنين. الثانية: ثبوت قتالهم لأن الأمر للوجوب. الثالثة: سقوط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله. الرابعة: جواز قتال كل من منع حقا عليه. وقاتل الصديق رضي الله عنه ما نعي الزكاة بتأويل. وقاتل علي رضي الله عنه البغاة الذين امتنعوا من بيعته وهم أهل الشام، وطائفة خلعته وهم أهل القيروان. وفي الجواهر: قال سحنون: إذا خرجوا بغيا ورغبة عن حكم الإمام دعاهم الإمام إلى الحق فإن أبو قاتلهم، وجاز له سفك دمهم حتى يقرهم، فإن تحققت هزيمتهم وأمنت دعوتهم فلا يقتل منهزمهم، ولا يذفف على جريحهم - بالذال المنقوطة -، وهو ما يسرع به إلى قتله، وقال الأئمة: فإن لم يأمن رجعوهم قتل منهزمهم وجريحهم، وروى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى لله عليه وسلم - قال: (يا ابن أم عبد، ما حكم بغي من أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز بالرأس المقدمة على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم). ولأن العصمة لقوله عليه الصلاة والسلام (فإن قالوها عصما مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ويقتل الرجل في قتالهم أخاه وقريبه مبارزة وغير مبارزة، وجده لأبيه وأمه كما في قتال الكفار؛ لأنه قتال ضرورة، ولا أحب قتل الأب وحده عمدًا أو مبارزة أو غيرها، وإن كان كافرًا لقوله تعالى: (ولَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) وقال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك، إلي المصير، وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) . فدل على أن الكافر اندرج في الموصى ببره؛ لأنه لا يأمر بالشرك إلا كافر، وقال أصبغ: يقتل أباه وأخاه، وإذا امتنع أهل البغي وكانوا أهل بصائر وتأويل، أو أهل عصبية من الإمام العدل: ينصب المجانيق (عليهم) ويقطع ميرتهم وماءهم أو يرسل الماء عليهم ليغرقهم كالكفار، وإن كان فيهم النساء والذرية، ولا يرميهم بالنار إلا أن (لا) يكون فيهم نساء ولا ذرية فله ذلك، إلا أن يكون فيهم من لا يري رأيهم ويكره بغيهم، أو خيف أن يكون فيهم، فلا يفعل شيئا مما ذكرناه. واختلف العلماء إن حضر معهم من لا يقاتل، فقال ابن حنبل والشافعي في أحد قوليه: لا يقتل؛ لأن عليا - رضي الله عنه - نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجاد، وقال: إياكم وصاحب البرنس - وصف بذلك لكثرة عبادته - فقتله رجل وأنشأ يقول: وأشعث قَوَّام بـآيـات ربـه *** قليل الأذى ترى العينُ مسلمِ هتكتُ لـه بالرمح جيبَ قَميصه *** فَخَرَّ صَريـعًا لليديـن ولِلفَمِ على غيرِ شيء غيرَ أن ليْس تابعًا *** عليًّا ومَن لم يتْبَع الـحَق يظلم يناشدِني حاميم والرمح سـاجرٌ *** فـهَلا تَلا حـاميمَ قبلَ التقدم وكان السجاد حامل راية أبيه، ولم يكن يقاتل، فلم ينكر على قتله، ولأنه مبارزة لهم، أو يلاحظ أن المؤمن معصوم الدم إلا ما أجمعنا على تخصيصه، فتوجه الخلاف، وإذا استعان أهل التأويل بالذمة ردوا إلى ذمتهم، ووضع عنهم مثل ما وضع عن المتأولين، وإن قاتل النساء مع البغاة بالسلاح فلنا قتلهن في القتال، وإن لم يقاتلن إلا بالتحريض ورمي الحجارة فلا يقتلن إلا أن يقتلن أحدًا بذلك، وإن أسرن وقدن كن يقاتلن قتال الرجال إلا أن يكن قد قتلن، قال الشيخ: يريد في غير أهل التأويل. نظائر: قال ابن بشير: يمتاز قتال البغاة على قتال المشركين بأحد عشر وجها: أن يقصد بالقتال ردعهم القهري، ويكف عن مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعان عليهم بمشرك، ولا يوداعهم على مال، ولا تنصب عليهم الرعادات، ولا تحرق عليهم المساكن، ولا يقطع شجرهم. وقتال المحاربين قتال البغاة إلا في خمس: يقاتلون مدبرين، ويجوز تعمد قتلهم، ويطالبون بما استهلكوا من دم ومال في الحرب وغيرها، ويجوز حبس أسراهم لاستبراء حالهم، وما أخذوه من الخراج والزكوات لا تسقط عمن كان عليه كالغاصب. (الثاني: في الجواهر: إن ولوا قاضيا وأخذوا الزكاة أو أقاموا حدًا نفذ عبد الملك ذلك كله للضرورة مع شبهة التأويل، ورده ابن القاسم كله لعدم صحة الولاية). فرع: قال: ولا يضمنون ما أتلفوه في الفتنة من نفس أو مال إن كانوا خرجوا بتأويل، وأهل العصبية ومخالفي السلطان بغير تأويل يزملهم النفس والمال قائما، أو فائتا. قال الطرطوشي: ولا يضمن المرتدون النفس والمال - وهو خلاف ما تقدم لابن بشير - قال: ولا خلاف أن أهل العدل لا يضمنون، وأن ما أتلفته إحدى الطائفتين على الأخرى في غير القتال أنه يضمن، وقال (ح): ما أتلفه البغاة لا يضمن بخلاف المرتد قبل الدخول بدار الحرب، وبعد اللحوق بدار الحرب يضمن، ووافقنا ابن حنبل في البغاة، وعند (ش) في المسألتين قولان. لنا في المرتدين قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، وقوله عليه السلام: (الإسلام يجب ما قبله) وإجماع الصحابة لأن الصديق رضي الله عنه قال للمرتدين: مسيلمة وطليحة وغيرهما: تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: ولا يدون 11/ 402 قتلانا وإنما أصحابنا عملوا لله تعالى فأجرهم على الله، فسكت أبو بكر ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعًا (...)، ولنا في البغاة: قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي)، والإذن في القتال يسقط الضمان كالسبع والصائل، وقياسًا على الحربيين، ولأنه لا يضمن المحق فلا يضمن المبطل كالمسلمين على الكفار. احتجوا بالقياس على الأموال الباقية العين، ولأن كل واحد من أهل الضمان في حق الآخر في إتلاف العدوان فيضمن مطلقًا كغير الباقي، وقياسًا على ما بعد القتال، وقاطع الطريق، وأهل العدل في بعضهم، وعلى الجماعة التي لا تمتنع. والجواب عن الأول: بالفرق بأن المعين لا يتقرر في الذمة بخلاف التالف؛ ولأنه لا ضرر في رد العين القائمة والغرامة في التالفة. والجواب عن الثاني: بالفرق بعدم العذر وتحقق القصد للفساد، وهو جواب الثالث والرابع، والخامس، وعن السادس: أنهم إذا امتنعوا كانوا أضر على الإسلام فيتلافوا بإسقاط التبعات إذا رجعوا. الرابع: قال في الجواهر: لا تؤخذ أموالهم ولا حريمهم، ولا يقتل أسيرهم، ويؤدب ويسجن حتى يتوب، وإن قتل أحد قتل به إن كانوا بغير تأويل، قال ابن حبيب، إن كانت لهم فيه قائمة استعان الإمام بسلاحهم وكراعهم على قتالهم إن احتاج إليه، ويرد لربه إذا زالت الحرب، ولا يستعان بشيء منه إن لم يكن فيه قائمة، ويرد إليهم أو لأهلهم عند الأمن منهم. الخامس: قال: إذا سأل أهل البغي الإمام العدل التأخير أيامًا أو شهرًا حتى ينظروا في أمرهم، أو يدلوا بحجة، ولم يحل أخذ شيء منهم، وله تأخيرهم تلك المدة ما لم يقاتلوا فيما أخذوا، أو يفسدوا فلا يؤخرهم حينئذ. السادس: في النوادر: إذا قتل البغاة أو الكفار رهائننا لم نقتل رهائنهم ونردهم اليهم، وكذلك فعل معاوية، وقال عبد الملك: نسترقهم ولا نردهم. السابع: قال: قتلانا في القتال كالشهداء، وقتلاهم يتركون، إن صلى عليهم منهم أحد وإلا دفنوا بغير صلاة، وعند سحنون، يصلي عليهم غير الإمام. الثامن: لا يبعث بالرؤوس للآفاق؛ لأنه مثله. التاسع: من قتل أباه أو أخاه من البغاة لم يحرم عليه ميراثه لأنه لم يتعجل ما أجله الله تعالى فيحرم. العاشر: قال: إن ألجاونا إلى دار الحرب لم يجز أن يغزوا بمشركين عليهم. الحادي عشر: قال: إذا اقتتل منهم طائفتان لا نقدر نحن على إحداهما (فلا نقاتل مع أحداهما) الأخرى، لأنهم غير منضبطين للقتال المشروع. الثاني عشر: إن سبوا مشركين قد صالحناهم حرم علينا شراؤهم منهم، ونقاتلهم لخلاصهم، وكذلك من صالحهم أهل البغي من الكفار، بخلاف لو استعانوا بهم؛ لأن الاستعانة ليس تأمينًا. تنبيه: الأصل في الإتلاف إيجاب الضمان، واستثنى من ذلك صورتين: البغاة ترغيبا في الرجوع إلى الحق، والحكام ليلا يزيد الناس في الولايات فتضيع الحقوق. نسأل الله تعالى العافية منها ومن غيرها! والنظر في حقيقتها وحكمها! وهي عبارة عن قطع الإسلام من مكلف - وفي غير البالغ خلاف - إما باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات، ولكليهما مراتب في الظهور والخفاء، ولذلك لا تقبل الشهادة فيها إلا على التفضيل، ولختلاف المذاهب في التكفير. والأصل: حمله على الاختيار في دار الحرب وغيره حتى يثبت الإكراه فيسقط اعتباره لقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). وفي هذا الطرف سبع مسائل: الأولى: في الجواهر: روى ابن القاسم، إن أسلم، ثم ارتد عن قرب، وقال: أسلمت عن ضيق، إن عرف أنه ضيق ناله أو خوف ونحوه عذر، وقاله ابن القاسم، وقال أشهب: لا يعذر ويقتل وإن علم أنه عن ضيق، وقاله (ش)؛ لأن الإكراه على الإسلام مشروع كما في الحربيين، جوابه: أنه مسلم فيهم لعدم العهد، أما الذمي: فعهده يمنع الإكراه فلا يثبت منه إسلام حقيقي مع اختيار. قال أصبغ: قول مالك أحسن، إلا أن يثبت على الإسلام بعد الخوف. قال محمد في النصراني: يصحب القوم في سفر فيظهر الإسلام ويتوضأ ويصلي وربما أمهم، فلما أمن قال: تحصنت بالإسلام لئلاً تؤخذ بناتي ونحو ذلك، له إن أشبه ما قال، ويعيدون ما صلوا خلفه في الوقت وبعه، وقاله مالك، وقال سحنون: إن كان في موضع يخاف على نفسه فدارى عنها وعن ماله فلا شيء عليه، ويعيد القوم صلاتهم، أو في موضع هو فيه آمن عرض عليه الإسلام، إن أسلم لم يعيدوا صلاتهم وإلا قتل وأعادوا. قاعدة: الإكراه مسقط؛ لاعتبار الأسباب كالبيع والطلاق وغيرهما، والردة سبب الإهدار والإسلام سبب العصمة فيسقطان مع الإكراه، غير أن (ش) اشترط الإكراه على غير الذمي يقضي بإسقاطه فلا بد أن يلزمه على الطلاق. وإلا لا يسقط، وكذلك سائر الأسباب، ونحن نلاحظ المعنى، فمتى ألجئ للشيء بالخوف على غيره وإن لم يقصد المكره له، عد إكراها فيه، وهو مقتضي الفقه؛ لأن المقصود وقوع التصرف على خلاف الداعية والاختيار، وأنه صار كالآلة، ما فيه من الداعية منسوب للمكره، لا له. الثانية: في النوادر. قيل لراهب: أنت عربي عرفت فضل الإسلام فما معك منه؟ قال: كنت مسلما زمانًا ولم أره خيرًا من النصرانية فرجعت إليها، وقال: عند الإمام كنت كاذبا، قال ابن وهب: لا يعاقب ولا يستتاب إلا أن يشهد عليه من رآه يصلي ولو ركعة. الثالثة: قال: قال ابن القاسم: إن قال أسلمت مخافة الجزية أو أمر أظلم فيه، قبل منه، وليس كالمرتد، ولو اشترى مسلمة فأخذ معها فقال: أنا مسلم، واعترف أنه إنما قال ذلك لمكانها، لا يلزمه إلا الأدب دون السبعين سوطًا (قاله ابن القاسم). الرابعة: قال: إن ارتد ولد المسلم المولود على الفطرة وعقل الإسلام ولم يحتلم، قال ابن القاسم: يجبر على الإسلام بالضرب والعذب، فإن احتلم على ذلك ولم يرجع قتل، بخلاف الذمي يسلم ثم يرتد وقد عقل، ثم يحتمل على ذلك، وفرق بينهما، وليس كذلك المرتد، وجعلهم أشهب سواء، ويرد إلى الإسلام بالسوط والسجن. وقال (ش): لا تنعقد ردة الصبي والمجنون ولا إسلامها، وله في السكران بمعصية قولان. ومنع (ح) في السكران الإسلام والردة، وقال أصبغ وابن حنبل: يصح إسلام الصبي وردته، غير أن (ح) قال: تبين امرأته ويزول ملكه ولا يقتل، وقال ابن حنبل: يقتل بعد البلوغ بثلاثة أيام للاستتابة. لنا قوله عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) في الحديث، و(من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وقياسًا على الصلاة والحج، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فأول الصبيان إسلامًا علي - رضي الله عنه - وهو ابن ثمان، وكذلك الزبير ابن ثمان، وهو كثير، وإذا صح إسلامه فكذلك ردته، لأنهما معنيان يتقرران في القلب كالبالغ. احتجوا بقوله - عليه السلام -: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)، وأنه لا يصح إقراره ولا طلاقه ولا عقوده، فلا تصح ردته وإسلامه كالمجنون. والجواب عن الأول: أن رفع القلم رفع الإثم، ونحن لا نوثمه حينئذ، بل نعتبره شيئا يظهر أمره بعد البلوغ. الجواب عن الثاني: أن هذه أعظم خطرًا، فاعتبرت بخلاف غيرها، فإن قاسوا على قتل الآدمي فإنه لا يوجب عليه قتلا بعد البلوغ قريبًا بذلك، ويؤكد ما قلناه أن الأسباب العقيلة معتبرة من الصبي والمجنون، كالاصطياد والاختطاف وإحبال الإماء، والكفر والإيمان فعلان للقلب فاعتبرا. قاعدة: خطاب التكليف يفتقر إلى العلم والقدرة وأهلية التكليف، وخطاب الوضع لا يفتقر لشيء من ذلك في أكثر صوره، وهو وضع الأسباب والشروط والموانع، كالتطليق بالإعسار، والتوريث بالأسباب، والضمان بالإتلاف، والزكاة بملك النصاب، وغير ذلك. ومقضتى هذه القاعدة اعتبار الإسلام والكفر من الصبيان؛ لأنهما سببان للعصمة والإهدار، وكذلك الطلاق والقتل البيوع والعقود والتصرفات كلها، لأنها أسباب، غير أن ثم فروقا وأسرارًا تذكرها في أبواب الفقه في هذه الفروع، غير أن هذه القاعدة في هذه المسألة معنا، فتنبيه بهذه القاعدة على فروعها، والسعي في الفرق مما استثنى عنها فإنها جليلة. تنبيه: الطلاق والعقود ينبني عليها فوات مصالح في الأعراض والمعوضات، فاشترط فيها رضاه المطابق للمصلحة غالبًا، وذلك إنما يكون بعد البلوغ وكمال العقل المدرك لذلك، فلم يعتبر قبل البلوغ، والكفر والإيمان حق الله تعالى، فلم يكن رضاه المعتبر معتبرًا فيها، إذ الحق لغيره، كالجنايات بالإتلاف وغيره، فهذا سرها من حيث الإجمال، والتفصيل يذكر في مواضعه. فرع: قال ابن القاسم: إن طلقت النصرانية وغفلت، عن ولدها منك حتى احتلم على النصرانية، ترك، وكذلك إن أسلم وترك ولده الصغير حتى كبر، قاله مالك، وقال ابن القاسم وأشهب: يجبر على الإسلام؛ لتعين إسلامه الحكمي بإسلام أبيه، وقال ابن عبد الحكم: إلا أن يكون وقت الإسلام ابن اثنتي عشرة سنة، لستقلاله بالنظر حينئذ، وإن مات أبوه وقف ميراثه، إن ثبت بعد البلوغ نصرانيًا لم يرثه، وإلا ورث، وإن أسلم قبل البلوغ ورث أيضًا، إن كان وقت الإسلام ابن ست فهو مسلم. قال مالك: إن أسلم والولد مراهق، وقف الميراث إلى البلوغ، إن أسلم ورث وإلا ترك ولم يرث. قال ابن القاسم، ولا يقبل منه قبل البلوغ إن قال لا أسلم وإن احتلمت، إن أسلم الآن لم يعط الميراث للبلوغ، والمرتد قبل البلوغ لا يصلي عليه ولا توكل ذبيحته. قال سحنون: من رأى عدم الصلاة عليه كانت ردته فرقة من امرأته وإلا فلا، والأولى قول ابن القاسم في الصبي والصبية، وإن أسلم وعقل الإسلام، وارتد قبل البلوغ ومات ورثه أهله لضعف إسلامه؛ لأن مالكًا يكرهه بالضرب وإن بلغ، والمغيرة يقتله إن تمادى بعد البلوغ، وأما المرتد من أولاد المسلمين فأجمع أصحابنا على قتله إذا بلغ وتمادى. قال مالك: إن تزوجت نصرانية فلما بلغ أولادها قالوا لا نسلم، لا يجبرون على الإسلام ولا يقتلون؛ لأن الخلاف في تبعهم لأمهم. الخامسة: قال مالك وابن القاسم: من سب الله سبحانه من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي كفر به انتقض عهده بخلاف نسبة الصاحبة والولد والشريك مما هو دينهم الذي أقروا عليه بالجزية، ومن تزندق منهم لا يقتل، لخروجه من كفر إلى كفر. قاله مالك، وقال عبد الملك: يقتل لأنه دين لا يقر عليه بالجزية. قال ابن حبيب: ولم أعلم من قاله ولا أخذ به. قال ابن القاسم: ومن سب الله تعالى أو النبي - عليه السلام - من المسلمين قتل ولم يستتب، وكذلك من عابه عليه السلام أو نقصه؛ لأنه كالزنديق لا تعرف توبته. قال سحنون: وميراثه للمسلمين؛ لأنه ردة، وقبل توبته (ش) و(ح)، واتفقا على أن حده القتل؛ لقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجتمع مع الحرج، فالسب أولى بالمنافاة، ثم هذا القتل عندن حد لا يسقط بالتوبة كتوبة القاذف. ونعرض للكلام في القذف فنقول: هو معنى يراعي في الإحصان، فوجب أن يكون منه ما يعتبر القتل كالزنا، ولم يتصور القتل إلا في حقه عليه السلام؛ لأن الحرمة لها مدخل في القذف؛ لأن قاذف العبد لا يحد، وحرمته - عليه السلام - لا تساوي حرمة أمته، فيكون حدها القتل. احتجوا بأن حرمة الله أعظم، وتوبته تقبل، ولأنه لا يزيد على الردة، والتوبة تسقط حدها، وفي الصحيح قال بعض اليهود له - عليه السلام - (السام عليك) ولم يقتله، ولم يقتل اليهودية التي سمت الشاة. الجواب عن الأول: أنا نلتزم التسوية، أو نفرق بأن البشر قابل للنقص، فكان التأثير فيه أعظم، وذلك أن الله تعالى أظهر المعجزة على يد مدعي الربوبية كالدجال، ولم يظهرها على يد مدعي النبوة؛ لأن العقل يبطل الأول دون الثاني؛ ولأن حق الله تعالى يسقط بالتوبة كالكفر، وحقوق العباد لا تسقط بها كالقذف والمال، وهو الجواب عن الثاني، فإنه حق الله تعالى وهو كالقذف والردة، مفسدتهما خاصة بالمرتد، ومفسدة هذا تتعدى للأمة، ويجوز إقرار الذمي بالجزية على سب المعبود، بخلاف الأنبياء. والجواب عن الثالث: أنه لم ينقل في الخبر أنهم أهل عهد، فلا يتم الدليل، أو كان في أول الإسلام حيث كانت الموادعة مشروعة، وهو الجواب عن الرابع، مع أنه روى أنها قتلت، وإن قلنا: قتله كفر؛ لم تقبل التوبة من المسلم؛ لأنها لا تعرف. تفريع: قال أصبغ: ميراثه لورثته إن كان مستترًا، أو مظهرًا فللمسلمين. قال ابن القاسم ومالك: لا يقتل الساب الكافر إلا أن يسلم. قال سحنون: لايقال له: أسلم، ولكن إن أسلم فذلك توبته. قال ابن القاسم: إن شتم الأنبياء أو أحدًا منهم، أو نقصه قتل ولم يستتب، (لا نفرق بين أحد منهم) قال مالك: إن قال الكافر: (مسكين محمد يخبركم أنكم في الجنة فهو الآن في الجنة، فماله لم يغن عن نفسه حين كانت الكلاب تأكل ساقيه). قال: لو قتلوه استراحوا منه، وأرى أن تضرب عنقه، والفرق بين، توبة المسلم لا تقبل بخلاف الكافر: إن قتل المسلم حد؛ وهو زنديق لا تعرف توبته، والكافر كان على كفره فيعتبر إسلامه، ولا يجعل سبه من جملة كفره؛ لأنا لا نعطيهم العهد على ذلك، ولا على قتلنا وأخذ أموالنا، ولو قتل أحدنا قتلناه، وإن كان من دينه استحلاله. قال سحنون: ولو بذل الحربي لجزية على إظهار السب للأنبياء - عليهم السلام - لم نقبله، وحل لنا دمه، فكذلك يحل دمه بالسب الطارئ، ويسقط القتل عنه في السب بإسلامه، ولا يسقط القتل بقتلنا: لأن حق الآدمي لا يسقط بالتوبة. قال ملك: إن قال: رداء النبي - عليه السلام - وسخ، يريد عيبه؛ قتل، وإن عير بالفقر فقال: يعيرون بالفقر وقد رعى سول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنم؛ يؤدب؛ لأنه عرض بذكره - عليه السلام - في غير موضعه، ولا ينبغي إذا عوقب أهل الذنوب أن يقول: قد أخطأت الأنبياء قبلنا: وقال عمر بن عبد العزيز: انظروا لنا كاتبًا يكون أبوه عربيًا، فقال كاتبه: قد كان أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرًا، فقال له: جعلته - عليه السلام - مثلا، لا تكتب لي أبدًا. قال سحنون: إن خاصمته، فأغضبته فقال: صلى الله على محمد، فقال الطالب: لا صلىالله على من صلى عليه، هل هو كمن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الملائكة الذين يصلون عليه؟ قال: لا إذا كان على وجه الغضب والضيق؛ لأنه لم يكن مصرًا على السب، بل تكلم على وجه. قال أصبغ: لا يقتل؛ لأنه إنما شتم الناس، وقال الحارث: يقتل، وسب الملائكة كسب الأنبياء، وعن ابن القاسم في الكتابي أو المجوسي يقول: إن محمدًا لم يرسل إلينا، بل إنما أرسل إليكم، وإنما نبينا موسى أو عيسى، أولم يرسل، أولم ينـزل عليه قرآن وإنما هو شيء يقوله، ونحو هذا؛ يقتل. قال مالك: إن ناديته فأجابك: لبيك اللهم لبيك، جاهلاً، لا شيء عليه. قال سحنون: يكره قولك عند التعجب: صلى الله على النبي محمد، ولا يصلي على النبي - عليه السلام - إلا على وجه التقرب. قال ابن القاسم: إن قال ديننا خير من دينكم، إنما دينكم دين الحمير، أو سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمد رسول الله، فقال: كذلك يعظكم الله، فيه الأدب الوجيع، والسجن الطويل، وإن سب فقتلته غيظًا وثبت أن قوله يوجب القتل، فلا شيء عليك، وإلا فعليك ديته وضرب مائة وحبس سنة، وإن سب أحد معاوية أو غيره، فإن نسبه للضلال والكفر؛ قتل، أو غير ذلك من مسافهة الناس نكل نكالاً شديدًا، وإن قال: إن جبريل عليه السلام أخطأ في الوصي، استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وقيل: من كفر صحابيا أوجع ضربًا، وعن سحنون: إن كفر أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، قتل، وينكل في غيرهم. قال القاضي في الشفا: من سبه - عليه السلام _ أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عرض به أو شبهه بشيء على وجه السب أو الازدراء أو التصغير لشأنه أو الغض منه، يقتل، كالساب. ويستوي التصريح والتلويح، وكذلك من دعا عليه أو تمنى مضرة له، وكذلك إن نسب لـه سجعًا، أو هجرًا من القول، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء، وبشيء من العوارض البشرية المعهودة لديه. وهذا كله مجمع عليه من الصحابة وغيرهم، وعن ابن كنانة: يخبر الإمام في الساب المسلم في صلبه حيًا، أو قتله. ويقتل من قال: هو يتيم أبي طالب، أو كان أسود. وإن قيل لرجل: لا وحق رسول الله، فقال: فعل الله برسول الله كذا وكذا، وذكر كلاما قبيحا، فقيل له: ما تقول يا عدو الله؟ فقال أشد من الأول، وقال: أردت برسول الله العقرب، فقال ابن أبي سليمان صاحب سحنون: يقتل ولا يقبل التأويل لصراحة اللفظ، وأفتى ابن عتاب في عقاب عشار قال لرجل: أد وأشك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن جهلت فقد جهل بالقتل، وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه وصلبه لتسميته - عليه السلام - في أثناء المناظرة باليتيم، وختن حيدرة، وزعم أنه لم يكن قصدًا. قال ابن المرابط: من قال إنه - عليه السلام - هرم، يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه نقص لا يجوز عيه في خاصته؛ لأنه على بصيرة من أمره، ويقتل من نقصه بسهو أو سحر أو هزيمة بعض جيوشه، أو شدة من زمانه، أو ميل لبعض نسائه، ومن لم يقصد الأزداء ولا يعتقده في تكمله بالسب أو اللعن أو التكذيب أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفي ما يجب له مم اهو نقص في حقه، وظهر عدم تعمده وقصد السب: إما لجهالة، أو لضجر، أو سكر، أو قلة ضبط لسان وتهور في كلامه، فإنه يقتل ولا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا غيرها وهو سليم العقل إلا للإكراه، وبه أفتى الأندلسيون في علي بن حاتم في نفيه الزهد عنه - عليه السلام - وقاله ابن أبي زيد وابن سحنون أبو الحسن القابسي، ونظر إلى أن السكران إنما ينطق بما يعتقده صاحيًا، ولأنه حد لا يسقطه السكر كالقذف والقتل وجميع الحدود، وأما القاصد لذلك المصرح فأشبه بالمرتد، ويقوى الخلاف في استتابته، أو مستترا فهو كالزنديق لا تسقط قتله التوبة، ومن تنبأ وزعم أنه يوحي إليه. قال ابن القاسم: هو مرتد لكفره بقوله تعالى: (وخاتم النبيين). قال أشهب: فإن كان ذميا استتيب إن أعلن ذلك، فإن تاب وإلا قتل. وقال ابن سحنون: من شك في حرف مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الله؛ فهو كافر. قال أحمد بن أبي سليمان: من قال إنه - عليه السلام - مات قبل أن يلتحي، وأنه كان بتاهرت، قتل؛ لأن ذلك نفي له، وتبديل صفته وموضعه كفر، واللفظ المجمل الذي يمكن حمله على النبي - عليه السلام - وعلى غيره، ويتردد في حال المطلق: هل أراده مكرها أم لا؟ فقيل: يقتل رعاية لحماه - عليه السلام - وقيل: لا يقتل حماية للدم، وقال سحنون فيمن أغضبه غريمه فقال له: صلى الله عليه وسلم، فقال: لا صلى الله على من صلى عليه، ليس كالساب؛ لأجل الغضب، ولم يتضمن كلامه الشتم؛ لأنه إنما شتم الناس دون الملائكة، بل مخاطبه فقط. وقال الحارث بن مسكين وغيره: يقتل، وتوقف القابسي في القائل: كل صاحب فندق قرنان ولو كان نبيًا مرسلاً، وشده بالقيود حتى يستفهم البينة عما يدل على مقصده هل أراد أصحاب الفنادق الآن، فليس فيهم نبي، فيكون أمره أخف لكن ظاهر لفظه العموم، وفي متقدمي الأنبياء - عليهم السلام - من اكتسب المال فوقع التردد. وقال ابن أبي زيد في القائل: لعن الله العرب، ولعن بني إسرائيل، ولعن الله بني آدم، وقال: إنما أردت الظالمين منهم، يؤدب باجتهاد السلطان. قال: وكذلك لعن الله من حرم المسكر وقال: لم أعلم من حرمه، ومن قال: لا يبع حاضر لباد، أن عذر بالجهل أدب الأدب الوجيع، كأنه أراد من حرمه من الناس، وكذلك يا ابن ألف خنزير - مع أنه يدخل في هذا العدد جماعة من أبائه - أساء، فيجز عنه، وإن علم قصده الأنبياء قتل، وقد يضيق القول لو قال لهاشمي: لعن الله بني هاشم، ولتمن قال له: أتتهمني؟ فقال: الأنبياء يتهمون فكيف أنت، قال أبو إسحاق: يقتل لبشاعة ظاهر اللفظ، وتوقف ابن منظور لاحتمال أن يكون خبرًا عمن اتهمهم من الكفار، فأطال القاضي تصفيده واستحلفه بعد ذلك على تكذيب ما شهد به عليه وأطلقه، فإن لم يذكر نقصا ولا عيبا، بل ذكر بعض حاله - عليه السلام - حجة ومثلا لنفسه وغيره لبعض حاله على طريق التأسي، بل لرفع نفسه قصد الهزل، كقوله: إن قيل في المكروه فقد قيل في النبي - عليه السلام - فإن أذنبت فقد أذنب، وكيف أسلم من الألسنة، ولم يسلم الأنبياء، وقد صبرت كما صبر النبي، وصبر النبي أكثر مني، وكقول المتنبي: أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود وقول المعري: كنت موسى وافته بنت شعيب غير أن ليس فيكما من فقير وآخر البيت شديد، وداخل في الإزراء والتحقير، وكذلك قوله: هو مثله في الفضل إلا أنه لم يأته برسالة جبريل هو تشبيه بالنبي - عليه السلام - أو تفضيل عليه باستغنائه عن الرسالة، وهو أشد، وقول الآخر: فر من الخلد واستجار بنار فصبر الله فؤاد رضوان وقول الأخر: كأن أبا بكر أبو بكر الرضا وحسان حسان، وأنت محمد. فهذه ونحوها إن درئ بها القتل ففيها الأدب والسجن بحسب شناعة المقالة وحال القائل في نفسه في كونه معروفًا بذلك أو لا، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا فأنكر الرشيد على أبي نواس فإن يك باقي سحر فرعون فيكم فإن عصا موسى بكف خضيب وقال له: يا بن اللخناء، أنت المستهزئ بعصا موسى؟ وأخرجه من عسكره، وأنكروا عليه أيضًا قوله: كيف لا يدنيك من أمل من رسول الله من نفره لأن حقه عليه السلام أن يضاف إليه ولا يضاف، وقال مالك إذا عير بالفقر فقال: قد رعي النبي عليه السلام، يؤدب، ومنع سحنون أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند التعجب، بل على وجه التقرب، وقال القابسي: إذا قال في قبيح الوجه: كأنه وجه نكير، أو عبوس كأنه وجه مالك، يؤدب؛ لأنه قصد بالذم المخاطب، وإن أراد به كمالك يغضب لغضب الله، فهو أخف أدبًا، وكل ما طريقه الأدب إذا ندم قائله، لم يؤدب، وأما إن وقعت هذه الألفاظ حكاية عن الغير، فإن كان للشهادة أو للنفي عن قائلها - لأنه ممن يخشى اتباعه - فحسن وإلا فلا يحكي، فإنه التفكه بالأعراض محرم، ومن كان مولعا بذلك ورواية هجوه - عليه السلام - فيقتل، ولا ينفعه نسبته إلى غيره، وحكى الإجماع في تحريم هجوه - عليه السلام - وكتابته، وقد أسقط المحرزون لدينهم من أحاديث المغازي والسير ذلك، وقد كره تعليم النساء سورة يوسف؛ لضعف معرفتهن، ولا يروي من الأحاديث المحتاجة إلى التأويل إلا الصحيح، بل كره مالك وغيره رواية ما ليس فيه عمل. ومشهور المذهب: قتل الساب حدًا لا كفرًا لا تسقطه التوبة. ولا تقبل توبة الزنديق على المشهور خلافًا للشافعي، ووافقنا ابن حنبل، وعند (ح) خلاف. والساب المعتقد حله كافر اتفاقًا. وكذلك إن كان السب كفرًا. كالتكذب، ويقتل وإن تاب حدًا، فإن لم تتم الشهادة على الساب، بل شهد الواحد أو لفيف الناس، أو ثبت قوله إلا أنه يحتمل، أو تاب على القول بقبول توبته، فيعزر بقدر حاله وقوة الشهادة من التضييق في السجن وشدة القيود إلى غاية انتهاء طاقته بحيث لا يمنعه القيام لضرورته وصلاته، فإن أثبت عداوة البينة وهي غير مبرزة، وهو غير متهم، فلا يعرض له، وإلا اجتهد في تنكيله. ومن سب النبي بغير ما به كفر قتل، ووقع لأصحابنا كلام وظواهر ظاهرها أن يجري الخلاف فيما به كفر، أنه يقتل، ومذهب ابن القاسم لا يقتل، وإن أسلم قبل سقط القتل؛ لأن الإسلام يجب على ما قبله، وقيل: لا لأن حق الآدمي لا يسقط بالتأويل بالتوبة، واختلف في القائل: لقيت في مرضي ما لو قتلت أبا بكر لم أستوجبه، قيل: يقتل؛ لأنه نسب الله تعالى إلى الجور، وقيل: يبالغ في تنكيله؛ لأن مقصوده الشكوى لا السب. وأكثر قول مالك وأصحابه والأشعري يعدم تكفير أهل الأهواء، وإنما قال مالك إن تابوا وإلا قتلوا؛ لأنه من الفساد في الأرض، وجمهور السلف على تكفيرهم، نظرًا إلى أنهم إنما قصدوا التعظيم مع الاعتراف بالرسالة، والتنقيص لازم لمذهبهم، ولا خلاف في تكفير من نفي الربوبية أو الوحدانية، أو عبد مع الله غيره، أو هو دهري، أو ما نوي، أو صابئ أو حلولي، أو تناسخي، أو من الروافض، أو اعتقد أن الله غير حي أو قديم أو مصور أو صنع العالم غيره، أو هو متولد من شيء، أو ادعى مجالسة الله تعالى أو العروج إليه ومكالمته، أو قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك، أو قال بنبوة علي، أو جوز على الأنبياء الكذب، وأنهم خاطبوا الخلق بالوعد والوعيد للمصلحة، أو قال: في كل جنس من الحيوان نذير، فإن فيه تجويز اتصافه بوصف الكلية ونحوها محتجًا بقوله تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أو قال بتخصيص الرسالة للعرب، أو جوز اكتساب النبوة، أو أنه يوحي إليه أو يصعد السماء، أو يدخل الجنة أو يأكل من ثمارها، أو قال بإبطال الرجم وغيره من ضروريات الدين، أو كفر جميع الصحابة؛ لأنه يؤدي إلى بطلان الدين، أو يسعى للكنائس بزي النصارى، أو قال بأن الصلاة طرفي النهار، أو قال بسقوط العبادة عن بعض الأولياء، أو أنكر مكة أو البيت أو المسجد الحرام، أو قال: الاستقبال حق ولكن لغير هذه البقعة، أو شك في ذلك - وهو ممن يظن به علم ذلك - أو يخالط المسلمين، بخلاف حديث الإسلام، أو جحد صفة الحج أو الصلوات، أو حجد حرفًا من القرآن أو زاده أو غيره، أو قال ليس بمعجزة، أو قال الثواب والعقاب معهودان، وكذلك القائل الأئمة أفضل من الأنبياء. وأما من أنكر ما لا يتعلق بالدين، كغزوة تبوك، أو جحود أبي بكر وعمر، لا يكفر إلا أن ينكر ذلك لتوهين نقل المسلمين أجمع، فيكفر، وأما إنكاره الإجماع المجرد الذي ليس طريقه التواتر عند التنازع، فأكثر المسلمين من الفقهاء والنظار على تكفيره؛ لمخالفة الإجماع الجامع للشرائط. قاعدة: الكفر: هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجوده أو صفاته، أو بفعل، كرمي المصحف في القاذورات، والسجود للصنم، أو التردد للكنائس بزي النصاري في أعيادهم، أو جحد أو علم من الدين بالضرورة، فقولنا: خاص، احتراز من المعاصي؛ فإنها انتهاك وليست كفرًا، وألحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بذلك إرادة الكفر، كبناء الكنائس ليكفر فيها، أو قتل نبي مع اعتقاد صحة رسالته ليميت شريعته، ومنه تأخير إسلام من أتى يسلم، ولا يندرج في ذلك الدعاء بسوء الخاتمة للعدو وإن كان إرادة الكفر؛ لأنه ليس مقصودًا فيه حرمة الله بدلالة المدعو عليه. واستشكل بعض العلماء الفرق بين السجود للشجرة أو للوالد، في أن الأول كفر دون الثاني، مع أن كليهما قصد به التقرب إلى الله تعالى، لقولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) مع أن القاعدة: أن الفرق بين الكفر بالكبيرة والصغيرة إنما هو بعظم المفسدة وصغرها؛ لاشتراك الجميع في النهي وما بين هاتين الصورتين من المفسدة التي يعملها ما يقتضي الكفر. قال صاحب الشفا: وللإجماع على تكفير من جحد أن الله تعالى عالم، أو متكلم، أو غير ذلك من صفاته الذاتية، فإن جهل الصفة، ولم ينكرها، كفره الطبري وغيره، وقيل: لا يكفر، وإليه رجع الأشعري؛ لأنه لم يصمم على اعتقاد ذلك، ويعضده الحديث القائل: (لئن قدر الله علي)، وحديث السوداء، فأكثر الناس لو كوشفوا عن الصفات لم يعلمها. فرع: في الشفا: إذا تزندق الذمي يقتل عند مالك؛ لأنه خرج من كفر إلى كفر، وقال عبد الملك: يقتل؛ لأنه لا يقر بالجزية عليه. فرع: قال: السكران والمجنون ما علم أنهما قالاه في حال لا يميزان فيه فلا عبرة به وما قالاه في حال الميز وإن فقد العقل الموجب للتكليف، أدبا، ويوالي أدبهما على ذلك، كما يؤدبان على قبائح أفعالهما؛ استصلاحا لهما، كالبهائم تراض. قال القابسي: إن قال السكران: أنا الله، إن تاب، أدب، وإن عاد لقوله طولب مطالبة الزنديق، فإنه كفر المتلاعبين. فرع: قال: إن أتى بسخيف القول غير قاصد للكفر والاستخفاف، كالقائل لما نزل عليه المطر: بدأ الخراز يرش جلوده، أفتى جماعة بالأدب فقط؛ لأنه عبث، وأفتى جماعة بقتله؛ لأنه سب، هذا إن كان يتكرر منه، أما الفلتة الواحدة، فالأدب. وأفتى ابن القاسم في القائل لرجل لما ناداه: لبيك اللهم لبيك: إن كان جاهلاً، وقاله سفها، فلا شيء عليه. وقول بعض الجاهلية: رب العباد مالنا ومالك قد كنت تسقينا فما بدا لك؟ أنزل علينا الغيث لا أبالك ونحو ذلك ممن لا تهذبه الشريعة والعلم، فيعلم ويزجر. فرع: قال: وكل نبي أو ملك حكمه في ذلك كما تقدم، إن أجمعت الأمة على أنه نبي أو ملك، وإلا لم ينته الأمر إلى القتل، بل الأدب بقدر حال المقول فيه، كهاروت وماروت من الملائكة، والخضر ولقمان وذوي القرنين ومريم وآسية وخالد بن سنان المقول: إنه نبي أهل الداسر، وزرادشت الذي تدعي المجوس والمؤرخون نبوته، وأما إنكار نبوته، وكونه من الملائكة فإن كان المنكر عالمًا، لم يتعرض له - لأنها مسألة خلاف - أو جاهلاً زجر عن الخوض فيه، فإن عاد أدب، إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا. قال القاضي: وأجمع المسلمون أن الملائكة مؤمنون فضلاً، وأن المرسل منهم معصوم، واختلف في عصمة غير المرسل، والصواب عصمة الجميع. وإن لم يرو في هاروت وماروت وخبرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء، وإنما هو اختلاف المفسرين. قال الطرطوشي، في الآية دليل على أن من الملائكة من يعصى ويستحق العقاب، ولا يعارض قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم) يحمل على جمهورهم والمعصومين منهم، وكلامه يخالف كلام القاضي. فرع: قال ابن سحنون: يقتل القائل: المعوذتان ليستا من كتاب الله، إلا أن يتوب، وإن قال: لعن الله التوراة بعد التأويل في صرفها للباطلة. فرع: قال مالك: من انتسب إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب ضربًا وجيعًا، ويشهر، ويحبس طويلاً، حتى تظهر توبته؛ لأنه استخف بحق الرسول عليه السلام. السادسة:(في النوادر). قال ابن القاسم: يقتل المتنبي أسر ذلك، أو أعلنه. السابعة: قال الطرطوشي: للسحر حقيقة، وقد يموت المسحور أو يتغير طبعه وعادته، وإن لم يباشره، وقاله (ش) وابن حنبل. وقال أصحاب (ح): إن وصل إلى بدنه، كالدخان ونحوه، جاز أن يؤثر، وإلا فلا، وقال القدرية: لا حقيقة له. لنا: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: (يعلمون الناس السحر) وما لا حقيقة له لا يعلم، ويلزم صدور الكفر من الملائكة؛ لأنه قرئ الملكين - بكسر اللام - أو ملكان، وأذن لهما في تعليم الناس؛ ليفرق بين السحر والمعجزة؛ لأن مصلحة الخلق كانت تقتضي ذلك في ذلك الوقت، ثم صعدا إلى السماء، وقولهما: (فلا تكفر) أي: لا تستعمله على وجه الكفر، كما يقال: خذ المال ولا تفسق به، أو يكون معنى قوله تعالى: (يعلمون الناس) أي: يقع التعليم لا عن التسليم، وقولهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) يدل على أن تعلم الحسر كفر، وفي الصحيحين: أنه - عليه الصلاة والسلام - سحر فكان - عليه السلام - يخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن (الحديث) وقد سحرت عائشة - رضي الله عنها - جارية اشترتها. وخبر السحر ووقوعه كان معلومًا للصحابة - رضوان الله عليهم - فهم مجمعون عليه، ولأن الله تعالى قادر على خلق ما يشاء، عقيب كلام مخصوص، أو أدعية مخصوصة. احتجوا بقوله تعالى: (يخيل إليه من سخرهم أنها تسعى) ولأنه لو كان له حقيقة، لأمكن أن يدعي النبوة، فإنه يأتي بالخوارق على اختلاف أنواعها. والجواب عن الأول: أنه حجة لنا؛ لأنه تعالى أثبت السحر وإنما لم ينهض بالخيال إلى السعي، نحن لا ندعي أن كل سحر ينهض إلى كل المفاسد. والجواب عن الثاني: أن إضلال الله تعالى للخلاق ممكن، لكن الله تعالى أجرى عادته بضبط مصالحهم، فما يسر ذلك على السحرة، فكم من ممكن منعه الله تعالى من الدخول في العالم لأنواع من الحكم. إذا ثبت هذا قال مالك وأصحابه: الساحر كافر، فيقتل ولا يستتاب، سحر مسلما، أو ذميًا كالزنديق. قال محمد: إن كان أظهره قبلت توبته. قال أصبغ: إن أظهره ولم يتب فقتل فماله لبيت المال، وإن استسر فلورثته من المسلمين، ولا آمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم. ومن قول علمائنا القدماء: لا يقتل حتى يثبت أنه من السحر الذي وصفه الله بأنه كفر. قال أصبغ: يكشف عن ذلك من يعرف حقيقته، ولا يلي قتله إلا السلطان، فإن سحر المكاتب أو العبد سيده، لم يل سيده قتله، بل الإمام، ولا يقتل الذمي إلا أن يضر المسلم سحره، فيكون نقضًا للعهد فيقتل، ولا يقبل منه الإسلام، وإن سحر أهل ملته، فيؤدب، إلا أن يقتل أحدًا فيقتل به، وقال سحنون: يقتل إلا أن يسلم كالساب - وهو خلاف قول مالك - وإن ذهب لمن يعمل له سحرًا ولم يباشر، أدب تهديًدا؛ لأنه أمر لم يكفر، وإنما ركن للكفر. وأما حقيقة السحر، ففي الموازية: إن قطع أذنا ثم ألصقها، أو أدخل السكاكين في جوف نفسه، إن كان سحرًا قتل وإلا فلا، واختلف الأولون فقال بعضهم: لا يكون إلا رقى أجرى الله عادته أن يخلق عنده افتراق المتحابين. قال الأستاذ أبو إسحاق: بل يقع به التغيير والضنى: وربما أتلف وأبغض وأحب وأوجب الصلة، وفيه أدوية مثل المرائي والأكباد والأدمغة فهذا الذي يجوز عادة، وأما طلوع الزرع في الحال، ونقل الأمتعة، والقتل على الفور، والعمى والصمم ونحوه، وتعلم الغيب ممتنع، وإلا لم يأمن أحد على ماله ونفسه عند العداوة. وقد وقع القتل والقتال بين السحرة، ولم يبلغ أحد ما بلغ فيه القبط، وقطع فرعون أيديهم وأرجلهم، ولم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، والهروب والتبديل، وحكى ابن المجوسي: أن أكثر علمائنا جوزوا أن يستدق جسم الساحر حتى يلج في الكوة، ويجري على خيط مستدق، ويطير في الهواء، ويقتل غيره، قال القاضي: ولا يقع فيه إلا ما هو مقدور للبشر، وأجمعت الأمة على أن السحر لا يصل إلى إحياء الموتى، ولا إبراء الأكمه والأبرص، وفلق البحر، وانطاق البهائم، ولولا الإجماع لجاز هذا عقلاً. إذا ثبت هذا فتعلمه وتعليمه كفر عند مالك. وقال الحنفية: إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وإن اعتقد أنه تخيل وتمويه لم يكفر، وقال الشافعية يصفوه: فإن وجدنا فيه ما هو كفر كالتقرب للكواكب، أو يعتقد أنها تفعل ما يلتمس منها هو كفر، وإن لم نجد فيه كفرًا فإن اعتقد إباحته فهو كفر. قال الطرطوشي: وهذا متفق عليه؛ لأن القرآن نطق بتحريمه. قال الشافعية: إن قال: سحري يقتل غالبًا وقتلت به، وإن كان الغالب منه السلامة فعليه الدية مغلظة في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، وقال (ح): إن قال قتلته بسحري لم يجب عليه القود؛ لأنه قتل بمثقل، وإن تكرر ذلك منه قتل؛ لأنه سعي في الفساد في الأرض. لنا: مفهوم قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) أي: بتعليمه (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) ولأنه لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه بقدرته على تغيير الأجسام، والجزم بذلك كفر. أو نقول: هو علامة الكفر بإخبار الشرع، فلو قال الشارع: من دخل موضع كذا فهو كافر، اعتقدنا كفر الداخل وإن لم يكن الدخول كفرًا، وإن أخبرنا هو أنه مؤمن، لم نصدقه. قال: فهذا معنى قول أصحابنا؛ لأن السحر كفر، أي: دليل الكفر، لا كفر في نفسه، كأكل الخنزير، وشرب الخمر، والتردد إلي الكنائس في أعياد النصارى، فنحكم بكفر فاعله. وإن لم تكن هذه الأمور كفرًا، لا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته، (كمن أراد أن يتعلم الزمر أو ضرب العود) والسحر لا يتم إلا بالكفر، كقيامه إذا أراد سحر سلطان لبرج الأسد مائلاً خاضعًا متقربًا له، ويناديه يا سيده يا عظيم أنت الذي إليك تدبير الملك والجبابرة والأسود، أسألك أن تذلل لي قلب فلان الجبار. احتجوا بأن تعلم صريح الكفر ليس بكفر، فالسحر أولى، ولو قال الإنسان: أنا تعلمت كيف يكفر بالله؛ لأتجنبه، أو كيف يزني ويحصن، ولا أفعله لم يأثم. والجواب: لا نكفره به، بل بأن صاحب الشرع أخبر أنه لا يتعلمه؛ ولأنه لا يتأتى علمه إلا بمباشرته، كضرب العود ونحوه، وعنه - عليه السلام - (حد الساحر ضربه بالسيف)، وقال عمر - رضي الله عنه -: يقتل كل ساحر وساحرة، وقاله جماعة من الصحابة. تنبيه: هذه المسألة في غاية الإشكال، فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشريعة تكفيرهم بها. منها: أنهم يرمون الكلب بالحجر فيعضه الكلب، فيجعل الحجر في زير الشرب بعد أن يكتب عليه آية من القرآن على ما أنزلت، فيحدث أثرًا مخصوصًا، ومن هذا النحو كثير مما يعتمده المغاربة وكثير من الناس في المحبة والبغضة والرحيل والعقد عن الوطء، وغيرذلك آيات من كتابه تعالى مضافة إلى تضميم الفاعل على تأثير ذلك، وخاصية نفسه، فتحصل تلك الآثار - ويسمونه علم المخلاة - فلا يمكن تكفيرهم بالقرآن، ولا باعتقادهم أن الله يفعل عندها ذلك، فإنهم جربوه فوجوده كالعقاقير، ولا لخواص نفوسهم، لأنها ليست من كسبهم، وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل بغير قدرة الله فهي قريب من الكفر، مع أن بعض العلماء قد أورد عليه اعتقاد المعتزلة أن الحيوانات كلها تفعل بغير قدرة الله تعالى، مع أن الصحيح عدم تكفيرهم بخلق الأفعال. ومنهم من فرق بأن الكواكب في جهة العلو، وتبعد كثيرًا فيكون ذلك تقريبًا من دعوى إلاهية لها، بخلاف الحيوانات. وورد عليه أن البقر عبد كثيرًا، وبالجملة والتكفير به ليس مشكلاً، بل تكفر المعتزلة بذلك. وأما قول الأصحاب: إنه علم على الكفر فمشكل؛ لأنا نعلم أن حال الإنسان في إيمانه قبل السحر كحاله بعده، والشرع لا يخبر على خلاف الواقع، فإن أرادوا الخاتمة فمشكل أيضًا؛ لأنا لا نكفر في الحال بكفر متوقع في المآل، كما أنا لا نجعله مؤمنًا في الحال، وهو يعبد الأصنام لأجل إيمان يتوقع، بل لكل حال حكم شرعي؛ لأنها أسباب شرعية، ولا يترتب الحكم الشرعي قبل سببه، وإن قطع بوقوعه، كما أنا نقطع بغروب الشمس ولا نرتب أحكامه قبله من الفطر، وصلاة المغرب وغير ذلك، وإنما قضينا بكفر المتردد للكنائس ونحوه في القضاء دون الفتيا، وبينه وبين الله تعالى قد يكون مسلمًا، فافترق البابان، فالذي يستقيم في هذه المسألة ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا: أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به، أو يكون سحرًا مشتملاً على كفر كما قاله (ش)، وما عدا ذلك فمشكل، فتأمله، فليس إراقة الدماء بسهل، ولا القضاء بالتفكير، وكثير من أصحابنا يتحسرون عليها. ولقد وجدت عند بعض الطلبة في بعض المدارس كراسًا فيه المحبة والبغضة ونحوهما مما تقدم، وأنه يتعانها، فأفتى أصحابنا بتكفيره، وهذ من غير تفصيل أمر عظيم في الدين، بل تحريم هذا الباب مطلقًا مشكل إلا بعد تفصيل طلا، فمن سعى في محبة بين زوجين بآية من كتاب الله، أو بغضة بين زانيين بقرآن يتلى، ينبغي أن يجاب أو يندب إليه فضلاً عن التحريم. في نفسه وولده وماله وجنايته والجناية عليه، فهذه خمسة أحكام: الأول: نفسه، ففي الجواهر يهدر دمه إن لم يتب، فإن تاب عصمها، وتوبته رجوعه، وتغير حاله برجوع المتظاهر عن التظاهر، بل يظهر ضد من الإيمان، وأما الزندق (وهو الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر)، أو ظهرنا عليه في حال زندقته فأذعن، فلا يرجع بمجرد دعواه حتى يظهر صدقة؛ لأنه بدعواه لم يخرج عن عادته من التقية، ولذلك نقول: لا تقبل توبته؛ لأنها لا تعرف، ولا نقول لا تقبل فلو جاء تائبًا قبل الظهور، ولم نعلم كفره إلا من قوله قبلناه، وعدم قبولها شاذ في المذهب، وكذلك الساحر. قال الطرطوشي: قال ابن القاسم: سواء في الزنديق ولد على ذلك أم لا، وسواء الرجل والمرأة والعبد و(ش)، ومن يزيد، ومن في الذمة لا يقتل. قال مالك: لأنه خرج من كفر إلى كفر. وقال عبد الملك: يقتل؛ لأنه دين لا يقر عليه بجزية، وقال (ش) وابن حنبل: نقبل توبته ظهرنا عليه أم لا، وعند (ح) الروايتان. لنا: قوله - عليه السلام -: (من بدل دينه فاقتلوه) و(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان....) احتجوا بقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، ولم يخص المجاهر بقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)، وبقوله - عليه السلام -: (فإذا قالوا عصموا مني دماءهم) الحديث، وقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسلام عبد الله بن أبي مع علمه بزندقته، وكذلك غيره من المنافقين، والقياس على غيره من الكفار. وفي مسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة في رجل قتله وهو يقول لا إله إلا الله: من لك بلا إله إلا الله، قال: فقلت: يا رسول الله، إنما قالها فرقًا من السلاح، فقال: (هلا شققت عن قلبه)، إشارة إلى تعلق الحكم بالظاهر دون الباطن. والجواب عن الأول: بحمله على المجاهر جمعًا بينه وبين قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)، أو على أحكام الآخرة، وهو الجواب عن الثاني والثالث. وعن الرابع: انعقاد الإجماع اليوم على أن من علم نفاقه؛ لا يقر، فنقول: عندنا وعندهم يستتاب، وإنما فعله - عليه السلام - لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولو ثبت ذلك لقتلهم لقيام الحجة له - عليه السلام - كما كان يقتلهم في الزنا وغيره لقيام البينة، وعلمه هو وحده ويقر مع علمه، فخاص به عندنا وعندكم. وعن الخامس: الفرق بأن توبة هذا لا تثير ظنًا؛ لأن حالته مستترة بخلاف مظهر الكفر. وعن السادس: أن الإكراه على الإسلام في الحربي مشروع إجماعًا، ويثبت إسلامه مع الإكراه، بخلاف غيره لا بد من الإسلام من باطن القلب. فرع: في الجواهر: عرض التوبة على المرتد واجب، والنظر أنه يمهل ثلاثة أيام فيكون الإمهال واجبًا أو مستحبًا. (روايتان). قال مالك: وما علمت في استتابته تجويعًأ ولا تعطيشًا، وأرى أن يقات من الطعام ما لا ضرر له معه، ولا عقوبة عليه إن تاب: كان حرًا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، ارتد عن إسلام أصلي أو طارئ. قال الطرطوشي: فإن قتله أحد قبل عرض التوبة فلا قصاص ولا دية. قال القاضي أبو الحسن: يعزر عندي في المرة الثالثة؛ لأنه في ردته الثانية بعد مباشرة الإسلام، وانتفاء الشبهة بالإسلام الطارئ بعد المرة الأولى، وقال (ح): عرض التوبة ليس بواجب وإن طلب التأجيل، وعن (ش) وأحمد قولان، وقال عبد العزيز بن أبي مسلمة: لا يمهل ويقتل وإن تاب. ودليل وجوب عرض التوبة قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، والأمر للوجوب؛ ولأنه إجماع الصحابة؛ ولأنه يحتمل أن تكون عرضت له شبهة، فتأول أو يزيلها عنه. احتجوا بقوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم)، وجوابه: القول بالموجب، فلعلهم الممتنعون عن التوبة. فرع: وافقنا الشافعي وأحمد على قتل المرتدة، وقال (ح): تقتل، وتحبس إن كانت في دار الإسلام حتى تسلم، فإن لحقت بدار الحرب استرقت، أو كانت أمة جبرها سيدها على الإسلام، إلا أن تكون الملكة أو الساحرة، وسابة النبي - صلى الله عليه وسلم - تقتل. وأصل المسألة أن القتل حد للحرابة، وهي تقاتل، أو للكفر. لنا: قوله - عليه السلام -: (من بدل دينه فاقتلوه)؛ ولأنها تقتل بالزنا كالرجل، فكذلك الردة. وهي تجبر على الإسلام فتقل كالرجل. أجابوا عن قوله - عليه السلام -: (من بدل دينه فاقتلوه) أن المراد به الرجل فقط؛ لأنه لم يقل: من بدلت، ولا دينها ولا فاقتلوها، ومفهومه إذ خصصه بضمير الرجل أن لا تقتل المرأة، وأن الرجل جنى على الإسلام؛ لأنه كان عاصمًا لدمه، والمرأة لا يعصم دمها الإسلام؛ لأنها لا تقتل بالكفر الأصلي؛ ولأنه - عليه السلام - نهى عن قتل النساء. وقياسًا على كفرها الأصلي، وناقصة العقل فلا تقتلك كالصبي. والجواب عن الأول: أن الضمائر إنما ذكرت للفظ من؛ لأنه مذكر، ويشمل الفريقين؛ لقوله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به). وعن الثاني: النقض بالشيوخ والزمنى، فإنهم يقتلون بالردة دون الكفر الأصلي. وعن الثالث: أن خبرنا علق فيه الحكم بالمعنى، وفي خبركم بالاسم، والمعنى أقوى فيقدم. وعن الرابع: الفرق بأن الردة بعد الاطلاع على محاسن الإسلام، فهي أقبح، ولذلك لا يقر عليها بالجزية. وعن الخامس: الفرق بالتكليف فيها دونه. فرع: في النوادر: إذا ارتد مدينة وغلبوا استتيبوا، فإن لم يتوبوا قتلوا، ولا يسبوا ولا يسترقوا. قال سحنون: يستتاب من بلغ أولادهم، ويكره الصغار على الإسلام، وقيل: يسبى من بلغ كالحربي، وإن لحق المرتد بدار الحرب وحارب فظفرنا به يستتاب، وليس كالمحارب يظفر به قبل التوبة؛ لأن أهل الردة قبلت توبتهم. الحكم الثاني: ولده. ففي النوادر قال ابن القاسم: يسترضع ولد المرتدة من بيت المال وتقتل، فإن لم يقبل غيرها أخرت، وولد ولد المرتد كالولد إذا أخذ من دار الحرب، لا يسبى، بل يتحتم القتل أو التوبة لعظم جناية الردة، وإن صاروا في سهمين أحد أخذوا ولا يتبعوا بشيء (قاله سحنون)، ورجع إلى سبي البالغ من الولد؛ لأن كفره لم يتقدمه إسلام، فهو كالحربي قال ابن القاسم: إذا ارتد ولحق بدار الحرب وارتد أهله هناك فولده الحادث بعد الردة فيء، كذلك ولده الصغار كولد الحربي، وكذلك الزوجة، ثم رجع إلى أنها ليست فيئًا، وإذا ارتدت ذات زوج حرة، ولحقت بدار الحرب، وتزوجت فولدت ثم سببت مع الكفار، فأولادها الكبار تبع لآبائهم في الدين، بخلاف المأسورة المسلمة، ولا يكون زوج التي تابت من الردة أحق بها. قال عبد الملك: إذا ارتد أهل قرية قتل الرجال والنساء، وبالغوا الذرية، ولا يسبي الصغار، ولا يسترقوا، ولا تستحل نساؤهم، وإن كانوا أهل ذمة، فذراريهم وأموالهم في تبع لرجالهم لاندراجهم في نقض رجالهم العهد، كفعله - عليه السلام - في قريظة. قال ابن القاسم: إن ارتد وله ولد صغير، امتنع من الإسلام وكبر، يضرب ولا يقتل وإن ولد حال الردة وأدرك قبل الحلم، جبر على الإسلام، وإن بلغ ترك، ولا يكون كمن ارتد؛ لأنه لم يتقدم له إسلام فعلي ولا حكمي. وعن ابن القاسم: إذا اتخذ الأسير ببلد الحرب أم ولد فمات، وغنم المسلمون الأمة وولدها فهم معها أحرار، وماله فيء، وإن حملت منه وهو مرتد فالجميع فيء، لأنها حالة لا يتقرر بها تصرف، قال محمد: إن لم يعتقها حتى بلغ الولد الذي حملت به قبل الكفر، لم يجبروا على الإسلام، وهم فيء، وصغارهم أحرار مع أبيهم. قال مالك: وكل ما ولد للمرتد بعد ردته لهم حكم المرتد، وصغارهم أحرار مع أبيهم. قال مالك: وكل ما ولد للمرتد بعد ردته لهم حكم المرتد، ولا يرق، ويجبر الصغار على الإسلام، ويستتاب البالغ، فإن لم يتب قتل. وفي الجواهر: من ارتد لا يتعبه ولده الصغير في الردة؛ لأن التبعة إنما تكون في دين يقر عليه، فإن قتل الوالد على الكفر بقي الولد مسلمًا، فإن أظهر خلاف الإسلام أجبر على الإسلام، فإن غفل عنه حتى بلغ، ففي إجباره خلاف إذا ولد قبل الردة. وفي الإجبار بالسيف أو بالسوط خلاف. وإن ولد بعد الردة أجبر وأن بلغ، وقيل: إن بلغ ترك. الحكم الثالث: ماله. ففي الجواهر: يوقف، إن عاد أخذه؛ لزوال المانع كدمه؛ وروى الشيخ أبو إسحاق أن ماله لا يعود إليه كالحربي إذا أسلم بعد الغنيمة، وإن قتل على ردته ففيء، إلا أن يكون عبدا فلسيده. وفي النوادر قال ابن القاسم: يطعم من ماله زمن ردته، وإن باع، واشترى بعد حجر السلطان فلحقه دين فقيل لم يكن دينه في هذا المال، بل في كل ما أفاد من حين حجر عليه أو غيرها؛ لأنه انتقل للمسلمين، وكل ما باع، أو عمل، أو اتجر، أو اشترى، أو تصدق به عليه فدينه فيه حتى يوقفه السلطان للقتل، فلا يلحقه دين إن قتل؛ لعدم الذمة بعدم الأهلية، وإن رجع فدينه في ماله وذمته. قال ابن القاسم: وإذا تزوج وبنى فلا صداق لها. قال سحنون: ردته حجر، ولا يحتاج إلا أن يتابعه أحد في ذمته، أو يزوجه في ذمته، كما يبايع المفلس في ذمته، وإن باع شيئا تعقبه الإمام فيمضي الغبطة، ويرد المحاباة إن قتله، وإن تاب كانت عليه، وإن تزوج وبني فإن قتل فلا شيء لها، وإن تاب فلها الصداق، وفي الموازية، ما باع، أو اشترى، أو أقر به قبل لحجر باطل، بخلاف نكاحه، وما أقر به، أو باع الحجرلم يدخل في ماله إلا أن يتوب، ومن أظهر ردته فقتل فماله لبيت المال، وتبطل وصاياه وهو مسلم، إلا ما ليس له فيه رجوع كالمدبر، فهو من ثلثه يوم قتل، أو ما خرج منه، ومعتقه إلى أجل، وأم ولده، وبدينه حالة الإسلام، يلزمه ذلك كله، وما كان من ذلك بعد ردته، فهو باطل إن مات، أو قتل، وإن كان قبل الحجر (قاله أشهب)، وقال ابن القاسم: تلزمه ديونه التي أدانها قبل الحجر، وينفذ إقراره، وإن رجع إلى الإسلام لزمه ذلك كله، ويرجع إليه ماله إلا أمهات الأولاد ففيهن خلاف، قال ابن القاسم: يرجعن يطؤهن، وقال أشهب: عتقن بالردة كامرأته، وعن ابن القاسم: ما أدان قبل الردة يلزمه، أو بعد الحجر فهدر أن مات أو قتل، ولازم إن تاب. قال محمد: وهو أصح ما سمعت. قال ابن القاسم: لا ينفق من ماله على ولده ولا على عياله؛ لأنه معسر بالردة، ولا من قلنا يعتق عليه ولده المسلم عند ابن القاسم كالكافر الأصلي مع العبد المسلم، وإن فقدوا فلبيت المال، وقال أشهب: بل للمسلمين؛ لأن الردة قطعت نسبه. قال ابن القاسم: ما اعتق في ردته أو كاتب فردت كتابته، فولاؤه للمسلمين؛ لأنه لا يثبت له ولاء، ولا يأخذ بالشفعة؛ لأن الله تعالى إنما ملك لضرورة الحياة، وهذا ميت شرعًا، ويرث العبد المرتد سيده، وكذلك من فيه علقة رق؛ لأنه يرث بالملك، لا بأسباب الميراث. فرع: في الموازية: إن شهد عليه واحد بالردة في رمضان، وأخر عليه بها في ذي القعدة، ومات من يرثه في شوال. ورثه؛ لأن الردة لا تثبت عليه إلا في ذي القعدة؛ لأن النصاب لم يكمل إلا فيها. قال ابن القاسم: إن مات للمرتد ولد مسلم ورثه غير الأب، ولا يرثه الأب، وإن رجع للإسلام؛ لأن الردة نقلت الميراث لغيره، وقال أشهب: يرثه إن رجع لزوال المانع. الحكم الرابع: في جنايته. ففي النوادر: جعله ابن القاسم مرة كالمسلم إذا رجع، ومرة جعله كالنصراني ورجع للأول، وذلك فيما جرح أو جنى على عبد أو سرق أو قذف، فيجري مجرى المسلم إذا رجع، وإلا قتل، ولا يقام ذلك عليه إلا الفدية، وإن قتل حرًا، وهرب لدار الحرب لم يكن لولاة المقتول من ماله شيء. وإن قتل عبدًا أو ذميًا أخذ ذلك من ماله. وقال أشهب: لولاة المسلم الدية من ماله إن شاؤا أن يصبروا حتى يقتلوه. وعن ابن القاسم: إن قتل مسلما خطأ فديته في بيت المال؛ لأن بيت المال يرثه، وإن قتل نصرانيًا أو جرحه اقتص منه - لأنه دونه - أو جرح مسلمًا لم يقتص منه، وإن قتله قتل به. قال محمد: إن قتل مسلمًا عبدًا لا أعجل القصاص حتى أستتيبه. فإن لم يتب، وقتل سقط عنه ذلك، إلا الفرية؛ لأنها حق ذمي، وإن تاب اقتص منه؛ لأنه إذا لم يتب مستحق للردة. وإن قتل عبدًا أو نصرانيًا عمدً، فذلك في ماله: قتل، أو تاب. فإن قتل المرتد أحدًا عمدًا: قال ابن القاسم: ديته في ماله دية أهل الدين الذي ارتد إليه؛ لأنها سواء. وقال سحنون: لا يلزمه إلا الأدب؛ لأنه مباح الدم، وإنما افتات على الإمام، فإن قتل مسلمًا بدار الحرب، أو قذفه، أو زنى، ثم يؤسر فلم يتب، يقتل ويسقط القذف، وإن تاب سقط عنه كل شيء فعله بدار الحرب كالحربي. ومن جد معه بعينه أخذه وإلا لم يتبعه وإن كان مليًا. قال محمد: إن قتل قبل أن يرتد جلد مائة وحبس. الحكم الخامس: الجناية عليه. تقدم في الحكم الرابع قول ابن القاسم وسحنون. قال في النوادر: قال أشهب: إذا قتلته فلا قصاص ولا دية، أو قطعت يده فعاد إلى الإسلام، فدية يده له دية الدين الذي ارتد إليه. قال ابن القاسم: إن جرحه عمدًا أو خطأ، فعقل جراحه للمسلمين إن قتل، وله إن تاب، ولو جرحه عبد أو نصراني فلا قود بل العقل. (قال أشهب) وما أصيب به في ردته من جرح عمدًا أو خطأ، ثم تاب، اقتص له في العمد من المسلم، وإن كان نصرانيًا أو عبدًا لم يقتص له منهما، وذلك في رقبة العبد. وفي مال النصراني، وإن كان الفاعل مرتدًا ثم تاب، اقتص منه، فإن تاب المفعول به دون الفاعل أتى العقل على عاقلته في الخطأ؛ لأن ما أصيب به المرتد فعقله للمسلمين (كمن سجن في قتل فجني عليه) فله القصاص، وإن قذفت مرتدا فلا حد: تاب أم قتل، قذفه مسلم أو كافر. وكذلك إن قذف قبل ارتداده، فلا حد وإن تاب، كم زني بعد القذف، ولو قذفه بأمه حد لأمه إن كانت مسلمة. وفي التنبيهات: هو يمد ويقصر: فمده بناء على أنه فعل من اثنين كالمقاتلة، ومصدره القتال، وقصره لأنه اسم الشيء نفسه، واشتقاقه من الشيء الضيق. وأصل تحريمه: الكتاب والسنة والإجماع. فالكتاب قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) الآية، وفي السنة أحاديث الرجم وغيره، وأجمعت الأمة على تحريمه. قاعدة: الكليات الخمس أجمع على تحريمها جميع الشرائع والأمم: تحريم الدماء، والأعراض، والعقول، والأنساب، والأموال. فيمنع القتل، والجراح، والقذف، والمسكرات، والزنا، والسرقة، وإنما اختلف في القليل من الخمر: فعندنا يحرم تحريم الوسائل، وعند غيرنا مباح. والنظر في تحقيق السبب الموجب، وفي الموجب.
|